الصبر على أذى المشركين في المرحلة المكية
الحمد لله الذي منّ على عباده المؤمنين بالأجور والحسنات ، فهم في النعمة شاكرون ينالون أجراً ، وفي الأذى صابرون ينالون أجراً ، إنهم في الخير أبداً - شاكرين وصابرين - ثم إن للصبر قيمة كبيرة ، وموقعا جليلا في الإسلام ، وأكثر أعمال الإسلام وفرائضه لها أجر محدود ، إلا الصبر فإن أجره غير محصور ولا محدود ، قال تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب}(الزمر: 10)
من أجل ذلك نجد القرآن يحض على الصبر والمصابرة، ويجعل من الصبر ركيزة أساسية، وعاملا حاسما لإقامة الدين في النفس وعلى الأرض ، قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة:153)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران:200) ، ولأجل أن الصبر بهذه المنزلة من الدين ، فقد كان سمة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم ، تجلت بصورة كبيرة في مرحلة الدعوة الأولى - المرحلة المكية - ، فقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، بشتى أنواع العذاب المعنوي والمادي، ولكنهم تجاوزوا كل ذلك بعزيمة لا تقهر، وصبر أكيد.
فقد واجه المشركون الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته بالأذى المعنوي، والدعاية المغرضة ، فقد سخروا منه ومن رسالته، فأشاعوا عنه أنه مجنون{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}(الحجر:6)، ورموه بالسحر والكذب {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}(صّ:4)، واستهزءوا بأصحابه فقالوا {أ َهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}(الأنعام: من الآية53)، وجعلوهم مثارا للغمز والضحك {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وإذا مروا بهم يتغامزون} ( المطففين:29 ،30)، وسعوا لتشويه حقيقة القرآن، وإثارة الشبهات حوله، فتارة يقولون : ما هو إلا قصص وأساطير السابقين ، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان:5)، وتارة يقولون: تعلمه من علماء البشر كما أخبر القرآن عنهم : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}(النحل:103)، ومرة أخري يحاولون صد الناس عن سماع القرآن والتشويش عليهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت:26).
أما الأذى المادي ، فقد تجرأ المشركون على شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وضايقوه،وجعلوا يرمون في بيته الأوساخ ، بل إن بعضهم وضع على ظهره الشريف أمعاء وأحشاء الإبل وهو ساجد لله بجوار الكعبة.
أما العصبة المؤمنة ، فقد ذاقت صنوفا من العذاب الشديد ، فمنهم من وضع في الرمضاء تحت شمس مكة المحرقة ، ومنهم من منع الطعام والشراب ، ومنهم من وضع عليه الصخر والحجر، وكان شعاره : أحد - أحد، ومنهم من استشهد تحت وطأة التعذيب، وكانت المحاصرة والمقاطعة في شعب أبي طالب ثلاث سنوات كاملة.
كل هذا ما كان ليصد هذه الفئة المؤمنة عن طريق الحق، بل هي صابرة محتسبة مستعلية بدينها وعقيدتها ، تتخذ من رسولها الكريم صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة ، مستعينة على الأذى بعدة الإيمان الكامل ، ووعد الله للصابرين بالأجر الكبير، لقد كان لصبر هذه الفئة - في الفترة المكية - نتائج كبيرة ، فقد انتصر الدين، وانتشر الحق، وفاضت العدالة ، وأتم الله عليهم نعمته ، وشتت عدوهم ،جزاء صبرهم واحتسابهم .نسأل الله أن يرزقنا صبراً على الحق، وصبراً عن الباطل .