المنذر بن سعيد البوطي مع سلطان الآندلس
كان الخليفة عبدالرحمن الناصر كلفاً بالعمارة ، وإقامة المعالم ، وتشيد الدور ، ومن ذلك أنه بنى مدينة الزهراء ، واستفرغ جهده في تنميقها وإتقان قصورها ، وزخرفة مصانعها ، حتى لقد ترتب على اهتمامه بذلك الأمر وإشرافه عليه بنفسه أن تأخر عن صلاة الجمعة ثلاثةٍ اسابيع متوالية فلم يصلها مع المنذر بن سعيد – وكان يتولى الخطابة والقضاء – فأراد المنذر أن يعظ الخليفة ويكسر من غروره ، ويحاسبه على إنفاقه الأموال الطائلة في التشييد والعمارة ، وعلى انشغاله بذلك عن الإقبال على الله .
فلما كان يوم الجمعة ، وحضر الخليفة ، صعد المنذر المنبر ، فبدأ الخطبة بقول الله تعالى (( أتبنون بكل ريعٍ آية تعبثون . وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . وإذا بطشتم بطشتم جبارين . فاتقوا الله وأطيعون . واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون . أمدكم بأنعامٍ وبنين . وجناتٍ وعيون . إني أخاف عليكم يومٍ عظيمٍ )) ( سورة الشعراء 128 – 135 ) . واسترسل يقول : ولا تقولوا (( سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين . إن هذا إلا خلق الأولين . وما نحن بمعذبين ] (سورة الشعراء 136 – 138 ) (( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً )) ( سورة النساء 77 ) ومضى يذم الإسراف في تشييد البناء ، والعناية بالزخرف ، بلهجة شديدة ثم تلا قول الله عز وجل : (( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوانٍ خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين . لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبةً في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم )) ( سورة التوبة 109 – 110 ) .
وأتى بما يشاكل هذا المعنى ؛ من التخويف بالموت وفجاءته ، والتزهيد في الدنيا ، والترغيب في الآخرة ، وأسهب في ذلك وأضاف إليه ما حضره من الآيات القرآنية ، والأحاديث ، وآثار السلف ، وأقول الحكماء والشعراء وغير ذلك ، حتى بلغ التأثر بالناس مبلغه ، وضجوا بالبكاء وكان للخليفة من ذلك نصيب كبير . إلا أنه وجد في نفسه على المنذر ، وشكا إلى ولده " الحكم " ما لقيه من الشيخ ، وقال : والله لقد تعمدني بالكلام ، وقد أسرف علي وبالغ في تقريعي . وأقسم ألا يصلي وراءه مرة أخرى ، وصار يصلي وراء أحمد بن مطرف خطيب جامع قرطبة .
هذه هي أقصى عقوبة كان بإمكانه أن ينـزلها بالمنذر بن سعيد، لأنه يعرف له مكانته وقدره .
فرحم الله أولئك العلماء العاملين ، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر غير خائفين في الله لومة لائمٍ ، أو جبروت حاكم .
إنهم قوم شعروا بثقل الأمانة الملقاة على عواتقهم ؛ فشمروا لحملها . وأيقنوا بحفظ الله لهم وتأييده إياهم ، فبذلوا في سبيل إظهار دينه كل ما يملكون ، ونصحوا للأمة حق النصح ، فلا عدمت أمثالهم الأمة ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
( نقلا عن كتاب حتى لاتغرق السفينة لفضيلة الشيخ سلمان العودة )
عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا
[ للتسجيل اضغط هنا ]
تحياتي