الوداع يا جمال يا حبيب الملايين ..
الوداع هذه العبارة رددتها مصر كلها يوم الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1970 بعد أن صعدت روح الرئيس جمال عبدالناصر الي ربها. ولكن جثمانه ظل لأربع ساعات كاملة علي فراش الموت بمنزله الكائن بمنشية البكري دون أن يجرؤ أحد من قيادات مصر ليخرج علي الناس ويقول: إن عبدالناصر مات.
الشيء الوحيد الذي حدث أنه قطعت الإذاعة والتليفزيون برامجها واكتفيا بإذاعة القرآن الكريم وتساءل الناس: ماذا جري؟ ولكن أحدا لم يجب عن السؤال، وبعدها بساعات خرج السادات في مشهد درامي وقال بصوت غارق في الحزن عبارته التي لا يزال كل العرب يحفظونها عن ظهر قلب.
فقدت مصر والأمة العربية رجلا من أعز الرجال.. من أشرف الرجال.. من أخلص الرجال.. مات جمال عبدالناصر.
ووقع الخبر علي الشعب كالصاعقة فلم يكن الكثيرون يتوقعون أن يخطف الموت من بينهم عبدالناصر وهو مازال في بدايات العقد السادس من عمره فلم يكن يتجاوز عامه الثاني والخمسين.
وبمجرد إعلان خبر وفاته لبست مصر ثوب الحداد وبكي كل من فيها حزنا علي عبدالناصر الذي اعتبروه بطلا رحل ونجما أفل وقمرا غاب وحلما خطفه الموت.
جنازة مليونية لم يشهد مثلها في مصر ولا في العالم العربي وخرجت مصر كلها لتودع زعيمها.. وتحركت جنازة عبدالناصر من مركز قيادة الثورة بجوار كوبري قصر النيل حتي منزله الذي يبعد عن مدفنه بمسجد عبدالناصر بكوبري القبة حوالي 9 كيلو مترات وسط أنهار من الدموع سالت من عيون الملايين من قلوب صادقة رصدتها عيون المحيطين وعيون الكاميرات التي أكدت أنها أكبر جنازة في مصر والعالم العربي كان موكبا يفوق كل وصف تجمع فيه الوفود والرؤساء مشاركين في جنازة عبدالناصر التي بدأت رسمية لبضعة أمتار ثم ذابت في بحر غلاب من البشر.
فالملايين باتت لا تحتمل رؤية نعش بطلها وزعيمها وحاولت اختطافه أكثر من مرة.. كما انتشرت الجنازات الوهمية حاملة نعوشا رمزية وصلي عليها الآلاف من المصريين البسطاء وسط انتشار عبارات الوداع والعويل وكل عبر بثقافته عن حزنه علي زعيم الأمة أربع ساعات كاملة قطعها موكب الرئيس الراحل وسط مشاهد مروعة من الفجيعة والأسي والدموع.
جنازة السادات الرسمية ردد فيها المصريون:" في رحاب الله يا سادات "
الكل أجمع علي أن جنازة الرئيس السادات يجب ان تكون الأكبر والأعلي حشداً والأكثر هيبة وحزناً ودموعاً «فلقد حقق السادات في سنوات حكمه ما يشبه المعجزات، فهو بطل الحرب الذي قاد البلاد لنصر عظيم علي اسرائيل وهو ايضاً بطل السلام الذي وقع معاهدة سلام أتاحت لمصر استعادة كامل اراضيها التي كانت محتلة.
وقبل ذلك كله كانت الطريقة التي مات بها «السادات» كفيلة بأن تثير عطف الجميع وحزنهم علي الرئيس الذي سقط شهيداً وسط جنوده في يوم كان يعتبره عيداً لمصر.. يوم 6 أكتوبر حيث اغتالته رصاصات شباب قادهم فكرهم آنذاك بأن قتل السادات سيفتح لمصر أبواب الجنة.
كانت شاشات التليفزيون تنقل علي الهواء مباشرة احداث العرض العسكري الذي يحضره السادات وكبار رجال الدولة.. وفجأة سمع المشاهدون صوت طلقات رصاص وبعد ثوان انقطع الإرسال واعلن مذيع التليفزيون ان عطلاً فنياً وراء وقف نقل احداث العرض العسكري وبعد فترة قصيرة عاد ذات المذيع ليقول ان مجهولين اطلقوا الرصاص اثناء العرض العسكري وان الله نجا الرئيس «السادات» الذي أصيب بإصابات طفيفة بينما كانت إصابة نائبه حسني مبارك خطيرة.
هكذا قال التليفزيون المصري ولكن ما حدث كان العكس ومات الرئيس «السادات» وبعد دقائق قليلة من وصوله للمستشفي ظل الامر سراً حتي يوم 7 من أكتوبر وأعلن رسمياً وفاة «الرئيس السادات».
وتقرر تشييع جنازة الرئيس في جنازة رسمية حيث تم نقل الجثمان بالطائرة من مستشفي المعادي الي نادي السكة الحديد لبدء مراسم الجنازة الرسمية وتم وضع جثمان السادات ملفوفاً بعلم مصر علي عربة مدفع يجرها 6 خيول ومن حول الجثمان سار عدد من ضباط الجيش حاملين الاوسمة والنياشين وخلف جثمان الرئيس السادات سار العشرات من كبار رجال الدولة يتقدمهم حسني مبارك وعن يمينه جمال السادات والي جواره جمال مبارك وعلاء مبارك!
وشارك في الجنازة وفود لـ«80» دولة يتقدمهم رؤساء أمريكا. «جيمي كارتر» و«نيكسون» و«فورد» و«الكسندر هيج» وزير الخارجية الامريكي انذاك ووزير الخارجية الامريكي السابق «هنري كسينجر» والرئيس السوداني «جعفر نميري» السابق، والمستشار الالماني «هلموت سميث» ورئيس وزراء بريطانيا «مارجريت تاتشر» وسكرتير عام الامم المتحدة «كورت فالدهيم». والرئيس الفرنسي «فرانسوا متيران».
سارت الجنازة صامتة حتي وصل الي النصب التذكاري للجندي المجهول حيث عزفت الموسيقي السلام الوطني وسلام الشهيد وحمل جثمان الرئيس الي مثواه الاخير تحت النصب التذكاري للجندي المجهول وحرص مبارك علي ان يتلقي العزاء بنفسه في الرئيس «السادات»!
ورغم توافد مئات المواطنين للمشاركة في الجنازة الا ان قوات الشرطة منعتهم من الوصول الي الجنازة وأغلقت امامهم شارع صلاح سالم فوقف المشيعون ليهتفوا في صوت واحد «في رحاب الله يا سادات».